بناء الرجال:[/justify]
وكان له من وراء هذه الجامعة جامعة أخرى تضمه مع النخبة من صحبه ومريديه’, تلكم هي بيته الذي أصبح مثابة لطلاب العلم وقبلة للباحثين، يؤمونه من كل مكان، ويقصدونه في كل وقت وحين، فلم يكن - رحمه الله - يخصص يوماً لندوة أسبوعية أو شهرية، وإنما كانت ندوته تنعقد يوميًّا، لا تكاد تطرق بابه إلا وجدت عنده ضيوفاً تعمر بهم الدار، ويلتئم بهم المجلس، ويدور الحديث في كل علم وفن ومعرفة، والشيخ يزينه ويتوِّجه بعلمه الجمِّ، وتواضعه المحبَّب، وصوته المجلجل، وحديثه المفعم بالحبِّ والعطاء ((إن الكلام يزين ربَّ المجلس)).
ومن الوفاء لذلك المجلس وصاحبه أن نذكر أسماء بعض رواده الذي أفادوا منه، وأصبحوا ملء السمع والبصر، من مثل الأستاذ الدكتور محمود ربداوي، والأستاذ الدكتور رضوان الداية، والأستاذ الدكتور مسعود بوبو - رحمه الله - والأستاذ الدكتور وهب رومية، والأستاذ الدكتور عز الدين البدوي النجار، والأستاذ محسن الخرابة، والأستاذ الدكتور مصطفى الحدري - رحمه الله -، والأستاذة الدكتورة منى إلياس، والأستاذ مطيع الببيلي، والأستاذ الدكتور عدنان درويش، والأستاذ بسام الجابي، والأستاذ نعيم العرقسوسي، والأستاذ إبراهيم الزيبق، والأستاذ الدكتور عبد الله النبهان، والأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله، والأستاذ الدكتور أحمد راتب حموش، والأستاذ الدكتور طاهر الحمصي، والأستاذ الدكتور محمد الدالي، والأخ الدكتور يحيى مير علم، والدكتور عبد الكريم حسين، والدكتور نبيل أبو عمشة, وكاتب هذه السطور.. وغيرهم كثير.
ترنو إليه الحدَّاث غاديةً ولا تملُّ الحديث من عجبِهْ يزدحمُ الناس كلَّ شارقةٍ ببابِهِ مُشرِعين في أدبِهْ
|
والحقُّ أن الشيخ - رحمه الله - بنى رجالاً، وخلَّف جيلاً من الباحثين يدينون له بالكثير، حتى لقد أصبح شكره لازمةً لا تكاد تخلو منها رسالة جامعية، أو كتاب محقق، أو بحث علمي لغوي في جامعة دمشق، بل لقد تعدى أثر ذلك إلى جامعات أخرى، وإلى مواطن أخرى
يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القرى شتّانَ بينَ قرًى وبينَ رجالِ
|
صنو النفاخ وقرينه:وإذا ذكرنا مجلس الأستاذ راتب فلا بد أن نذكر عَلَماً كبيراً وعالماً وزيراً كان يؤمُّهُ، وقد عرفناه فيه قبل أن نعرفه أستاذاً في كلية الآداب، ومشرفاً على رسائل الماجستير والدكتوراه، ومديراً للموسوعة العربية الكبرى، ورئيساً لمجمع اللغة العربية بدمشق، إنه أستاذنا الدكتور شاكر الفحام صِنْوُ النفاخ وقرينُهُ، وأخو الصدق الذي ما انفكَّ يشدُّ من أزره ويدفع عنه، ويحُوطُهُ بعين عنايته في الحِلِّ والسفر والإقامة والغربة، والسرّاء والضرّاء، آسياً ومؤاسياً، وراعياً ومنافحاً.
ما أعرف نفسي دخلتُ المجمع مرةً إلا رأيتهما معاً، وإن أنسَ لا أنسَ موقفين شهدتهما لهذين العالمين المتحابَّين يدلاَّن على العروة الوثقى بينهما:
الأول: دخولهما معاً قاعة المحاضرة على طلبة الدراسات العليا، في أول عام تفتتح فيه الدراسات العليا في جامعة دمشق، إذ أسند تدريس مادة الدراسات اللغوية إلى الأستاذ الدكتور شاكر فكان يصحب معه الأستاذ راتب ليقرئا الطلاب فصولاً من كتاب الخصائص لابن جني.
والثاني: رِباط الأستاذ راتب بجوار غرفة العناية المركزة التي عولج فيها الدكتور شاكر على أثر أزمة قلبية ألمّت به، فلم يبرحها إلا معه، فأيّ محبة هذه؟! وأيُّ وفاءٍ هذا؟! إنه العلمُ الرّحِمُ بين أهله.
آثاره:
ويأخذ بعض الناس على الأستاذ النفّاخ قلة ما خلفه من آثار، وندرة ما صنعهُ من أعمال، وما أحسن ما قيل في ذلك
[6]:
بغاثُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً وأمُّ الصَّقرِ مقلاتٌ نزورُ
|
فأعمال النفاخ بلغت الغاية دقة وإتقاناً، وفصاحة وبياناً، بدءاً من دراسته لابن الدمينة وتحقيقه ديوانه، ومروراً بصنعه فهارس شواهد سيبويه، واختياراته في الأدب الجاهلي، وانتهاءً بتحقيقه قوافي الأخفش. دع عنك ما حبَّره من مقالات غدت نموذجاً فريداً ومثالاً يحتذى في البحث العلمي، والتحقيق المستقصي، والنقد المحكم، والاطلاع الواسع
[7].
ومن اطَّلع على مكتبة الشيخ رأى عجباً فيما سطّره على هوامش كتبه من استدراكات وتحقيقات ونقدات لم يكد يخلو منها كتاب قرأ فيه، أو اطّلع عليه، أو عرض له. وكان - رحمه الله - كثيراً ما يقول لنا: إنه ما يكاد يفتح كتاباً حتى تقع عينه على مواطن الخطأ والتصحيف والتحريف فيه، وكأنه موكّلٌ بعثرات المحققين والناشرين، والمؤلفين والباحثين، والسوأة السوآء لمن يقرأ الشيخ عمله على سبيل التتبع والنقد والتعقب والتقويم، إنك عند ذلك لن تجد بياضاً في الكتاب، لا في الهامش ولا في الأعلى ولا في الأسفل، فخط الشيخ يُحدِقُ بالكتاب من كلِّ جانب، بل هو يخالط السطور والأحرف ويدخل فيما بينها معلقاً ومدقّقاً’, ومخرجاً ومحيلاً.. ومقوماً ومعقباً ومُدلّلاً ومستشهداً. وإذا رأيت ثَمَّ رأيتَ علماً غزيراً وفهماً عظيماً.
وقد يُحوجه الأمر إلى إضافة أوراق يودعها الكتاب الذي يتعقبه ليستكمل مسألة يحققها، أو تخريجاً يتتبَّعُهُ، أو إحالة يستوفيها. ولهذا ما كان يبقي على حجم الكتاب كما أخرجته المطبعة لا يقصُّ منه جانباً، ولا ينقص منه هامشاً. وإن أنس لا أنسَ أسفه وحزنه على كتاب تطوَّع أحد أصحابنا بتجليده، فأعمل المجلَّد مقصَّه فيه، فجاء على غير ما يحبُّ الشيخ ويرضى. وإن تعجب فعجب أمر القصاصات التي يجعلها الأستاذ بين صفحات الكتاب ليستدل على مواطن فيه، إذ لا يكاد يخلو منها سفر من أسفار المكتبة.
والحق أن من رواء هذا كله أعمالاً جليلة، كان الأستاذ قد أنجزها أو كاد، ثم حالت حوائل دون إخراجها للناس، على رأسها عمله في القراءات القرآنية والأحرف السبعة، ذلك العمل الذي أكل سني عمره، وكان يعدّه لنيل درجة الدكتوراه، ثم لما بلغ فيه الغاية استنكف أن يتقدم به لنيل الدرجة، وقد حدثني الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين
[8] أنه قدم دمشق فزار الأستاذ النفاخ، وأخبره أن أستاذه الدكتور شوقي ضيف - وكان المشرف على رسالته - يطلب إليه أن يكتب ولو ورقة واحدة يلخص فيها نتائج بحثه ليمنحه عليها درجة الدكتوراه، فما كان جواب الأستاذ إلا أن أبى مترفعاً - وأكاد أقول مستنكراً - لأنه كان يرى نفسه فوق تلك الدرجة، بل فوق كثير ممن كان يمنحها.
ومن أعماله الأخرى التي توفّر عليها زمناً طويلاً، وأخذت منه كلّ مأخذ ولكنه لم يخرجها، تحقيقه معاني القرآن للأخفش، ومعرفة القراء الكبار للذهبي، ورسالة الإدغام الكبير المنسوبة إلى أبي عمرو بن العلاء
[9], وكان الأستاذ يعتزم أن يشارك بها في تكريم شيخه أديب العربية الكبير محمود محمد شاكر، رحمه الله. ومن هذه البابة أيضاً مراجعته تحقيق كتاب ((الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري)) وهو تحقيق كان قد نهض به الأستاذ الدكتور أمجد طرابلسي - رحمه الله - ثم رغب إلى الأستاذ أن يراجعه، فأعمل الأستاذ فيه فكره وعلمه وقلمه، وامتدت المراجعة نحواً من خمسة عشر عاماً شهدتها عاماً عاماً، والشيخ يعيد التحقيق من جديد، يبدي ويعيد في مسائل، ويتوقف عند مسائل، ويرجئ النظر في مسائل على عادته في إتقان العمل وتجويده وتحكيكه وتثقيفه، وطلب وجه الكمال فيه، وأنّى يُدرك الكمال وهو لله وحده سبحانه.
[justify][/b]