( تفكَّرَ ) مطاوعُ ( فكَّرَه ) ؛ كأن أحدًا ( فكَّره ) أو هو ( فكَّرَ ) نفسَه ؛ فـ ( تفكَّرَ ) ، وإن كانَ لم يُسمَعْ ( فكَّره ) ؛ غيرَ أن القياسَ يشهدُ له ، كما قالوا : ( علَّمَه فتعلَّم ) ، و ( فهَّمه فتفهَّم ) . ومطاوعُ ( فعَّلَ ) يأتي كثيرًا للدلالةِ على العملِ المتكرر في مهلةٍ ؛ قلتُ في كتابِ التصريفِ : ( وإنما أفادَ هذه المعانيَ الأخرَ مع أنه فرعٌ عن المتعدي ؛ والمتعدي لا يفيد شيئًا منها من قِبَل أن المطاوِع للفِعل ربما طاوعَ غيرَ متردّدٍ ؛ وهذا في الأفعالِ اليسيرةِ ، وربما طاوعَ بعد تكلُّفٍ ؛ وهذا في الصفاتِ المحمودةِ ؛ إذ لا تنالُ بيسرٍ ، وربما طاوعَ شيئًا فشيئًا ؛ وذلك في ما يمكنُ نَيلُه ؛ ولكن بالتمهُّلِ ، وطولِ المدةِ ؛ كـ ( تعلَّم ) . فإن أردتَّ في الأفعالِ التي تقتضي مهلةً ، وفي الصفاتِ المحمودةِ الدلالةَ على قَبولِه الفِعلَ مباشرةً من غيرِ تكلُّفٍ ولا مُهْلةٍ جعلتَ مطاوعَه مجرَّدًا ؛ تقولُ : ( علَّمتُه فعلِم ) ، و ( صبَّرته فصبَر ) . ولا ترتكب مثلَ هذا في الأفعالِ اليسيرةِ من قِبَل أنه لا يلتبس معناها ) ا . هـ . أما ( فكَّرَ ) فدالٌّ على التكثيرِ . وقد تحصَّلَ لي بالاستقراءِ أن الفعلَ اللازمَ الدالَّ على تقلُّبٍ يكثُر بناؤه على ( فعَّل ) ؛ نحو ( طوَّف ) ، و ( جوَّل ) ، و ( حوَّم ) ، و ( حلَّقَ ) ؛ وأنا أرى قياسَه . ومنه ( فكَّر ) لأن ( التفكيرَ ) تقليبُ المعنى في الذهنِ . وبما تقدَّمَ تعلمُ أن فرقَ ما بينهما أن ( فكَّر ) تفيدُ التكثيرَ فقطْ ؛ بل التكثيرُ فيهِ ليسَ بظاهرٍ ، لدلالةِ المعنى عليهِ باللزومِ ؛ إذ لا ينفكُّ عنه غالبًا ، كما لا ينفكّ الشيءُ في الطوافِ من التكثيرِ ؛ فكأنَّ بناءَه على ( فعَّلَ ) لاقتضاءِ المعنى الأصليّ ؛ وليسَ بزائدٍ عليهِ . أما ( تفكَّر ) فتفيدُ التكرارَ الناشئ عن باعثٍ عليهِ ، مع تمهُّلٍ ؛ فهو أبلغُ ، وأوفقُ لمعنى ( النظرِ الصحيحِ المطلوبِ ) ؛ ولذلك لم يجئ في القرآنِ إلا هو ؛ قالَ تعالى : (( أولم يتفكروا في أنفسهم )) ، وقال : (( إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون )) ، إلا في قولِه تعالى : (( إنه فكّر وقدر )) ؛ كأن فيهِ إشارةً إلى أن الوليد بن المغيرة لم يتأمل حقّ التأمل ، ولو تأملَ لهداه ذلك إلى الإيمانِ .
أبو قصي